اشتعلت الحرب بين قريبتي وجارتها حتى وصلت إلى التعارك بالأيدي، وتدخل الأزواج والحموات، وعمل الأبناء كجواسيس، ودعاء متبادل في الثلث الأخير من الليل بالفضيحة والهلاك وغيرها من ألوان الإعتداء في الدعاء.
كانت قريبتي تحكي لي وهي حزينة ومغتاظة من هذه الجارة التي سوَّدت حياتها، ونكدت عيشها.. فتذكرت جارة لي في أيام زواجي الأولى، كانت سيدة ذات وقار ولها جهود إجتماعية محترمة وثقافة ظاهرة، نصحتني أن أعتزل جاراتنا الأخريات وأقتصر على إلقاء السلام، وإبتسامة، وكلمة طيبة.. لأنها خبرتهن فلم تجد إلا ضياع الوقت، وسجال التفاخر في الأموال والأولاد، والحسد والكذب وإقتحام الخصوصيات.
وظلت قريبتي تلوم نفسها، وتسب ما وصفته بـ غبائها الذي دفعها لفتح الباب لهذه الجارة، والثقة فيها ومعاملتها كأخت.. وإستشهدت بالمثل الشائع: صباح الخير يا جاري.. أنت في حالك وأنا في حالي!.
حاولت أن أوضح لها أن هذا المثل لا يصلح على عمومه، وإنما مع بعض أنواع الجيران، ويبقى الجار صاحب حق في إكرام وبر، ولكنها ظلت تجادل بأن الجيران في هذا الزمان مفسدة، وأن الخير أن يعتزل كل إنسان جيرانه، فلا يفتح الباب، ولا يتبادل الزيارات حتى في أصعب الأوقات.
* فهل هذا هو الحل؟
* وهل الاختلاط بين الجارات مفسدة؟
* وهل طبيعة الحياة الآن تفرض علينا أن يعيش كل منّا في صحراء معزولة حدودها عالمه الإفتراضي بين -أي باده- و-فيسبوكه- و-واتس آبه-؟!
وطافت بذهني نماذج إيجابية كثيرة، كانت الجارة فيها خير مُعين لجارتها على تخطي أزماتها، وإبعاد شبح الغربة عنها.. والتعاون على الخير والبر والتقوى.
وهذه العوالم الإفتراضية مهما كانت لطيفة، ويتحكم فيها الإنسان بالكامل، فبضغطة زر يلغي صديق، وبضغطة زر يغير صورته وإسمه ومعلوماته وشخصيته.. يعيش بين من يريدهم، ويفصل عالمه كما يهوى.. إلا أنها تظل إفتراضية، لا تقدم تفاعلات إجتماعية حقيقية، ولا تلبي للإنسان حاجته للإختلاط ببني جنسه.
مهما بلغت التكنولوجيا مداها، حتى بات التواصل بين أفراد البيت الواحد عن طريق الجوال، أو الواتس أب.. فلن تغني عن الحاجة لأن نقترب من بعضنا البعض، نتعاضد ونتشارك وتلتقي العيون وتتداخل الأصوات بلا تزييف ولا تجمل.. بلحمنا ودمنا وليس بوجوه تعبيرية وأسماء وهمية.
والحل ليس أن تعتزل الجارة جارتها، وإنما أن نضع لعلاقاتنا حدودا، ونلتزم بضوابط تُتحترم فيها الخصوصيات، وعلى رأسها إحترام الأوقات وعدم تضييعها.
فإكرام الجارة لا يعني أن تفتحي لها بابك في كل وقت وحين، ولا أن تأتيكِ وقتما تريد ويناسبها دون مراعاة لما يناسبك أنت..
إكرام الجارة لا يعني أن تتنازلي عن حقك بل واجبك في أن تحفظي وقتك وأوقات أبنائك، قال تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
فالجارة التي تحترم وقتك، وتراعي ظروفك، وتلتزم معك بآداب الإسلام.. فلا تباغض ولا تحاسد ولا تفاخر، بل أدب وإحتشام وحياء وتعاون على البر والتقوى، هي كنز ثمين، ونعمة تستوجب الشكر.
أما الجارة التي تقتحم بيتك، وتشيع سرك، وتغضب لأتفه الأمور، وتصنع من مشاحنات الصغار مشكلات للكبار، وحديثها كله مقارنات وتفاخر حول الأثاث والطعام والأموال.. ولا تَقْبل نصحك أو تُقبل على وقت يجمعكما في ذكر وتواصي.. فلا يصلح معها إلا شعار -صباح الخير يا جاري.. انت في حالك وأنا في حالي.
الكاتب: مي عباس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.